خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني وحرب السَّرديات.. مقاربة أولى

 

9a91055e b30c 47a2 9fe9 87bccdcc0f4a

 

أ.د. بسام قطوس

رئيس قسم اللغة العربية وآدابها - كلية الآداب - جامعة اليرموك

   الخطابُ في شكلِه المُعلنِ جسدٌ أو بنيةٌ، ولكنه في عمقه وحقيقته الفكرية روحٌ، والوصول إلى روح هذا االخطاب ، أو ما وراءه، لا يقدر عليه إلا صاحب أدوات. ومن يُدرك أكثر من جلالة الملك الذي عاش القضية الفلسطينية بكل أبجدياتها أبا عن جدود وعاش عمق القضية الفلسطينية وجراحاتها.

في خطاب جلالته أمام قمة القاهرة في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر، أدرك جلالته أن "حرب السرديات" لا تقل عن الحرب على غزة؛ لذا استأذن الحاضرين ليخاطب أوروبا والعالم كله بسردية يفهمونها. ولعل أول علائم تلك السردية العربية الصادقة والمنصفة على لسان جلالته هي اللغة التي يفهمها العالم؛ فاللغة عتبة نصية تقود إلى الفهم وتوطئ له. لهذا استأذن جلالته الحضور بأن يتكلم باللغة الإنجليزية التي يفهما الأوربيون والعالم كله.

وإذا كان الغرب هو صاحب مقولات التفكيك التي أسست لتفكيك المركزية الغربية، فقد نهج جلالته في خطابه نهجاً يفكك تلك العقلية المتمركزة حول ذاتها، ومن ثم تفكيك هذا الخطاب الغربي المجحف بحق أمتنا العربية والإسلامية، وبحق الشعب الفلسطيني ولسان حاله يقول: (لا يوجد دم أغلى من دم..)

لم يفترق جلالته عن شعبه الأردني في أحلامه وتطلعاته وطموحاته، ولكنه سلك مسلكا يمكن وصفه بالواقعية السياسية وربما (الدبلوماسية الخَشنة) في طرحه وإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية وقوتها ونزاهتها. وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة يشهد لها كل منصف يستمع إليه وهو يقول:

(إن حملة القصف الدائرة في غزة حملة مرفوضة، إنها انتهاك فاضح للقانون الإنساني الدولي، إنها جريمة حرب، كما الحرمان المتعمد للسكان من الغذاء والماء والدواء والكهرباء).

لغة جلالته هي لغة المحاجَّة العقلية والمنطقية حيث يحضر النص بكامل هيبته ووقاره، ويحضر خلفه نص آخر يطل برأسه مُستحضراً نقيضه، يقول جلالته:

 (فقد مر أسبوعان منذ فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً ومُستمراً على قطاع غزة مع ذلك الصمت الدولي)، ولكن الرسالة التي يسمعها العالم :"حياة الفلسطينيين أقل أهمية من حياة الإسرائيليين! وحياتنا أقل أهمية من حياة الآخرين!) لتحضر الصورة الغائبة أو المغيبة في شكل المسكوت عنه من صور الإجرام إجرام الاحتلال بأهلنا المظلومين في غزة ، وجرائم الإبادة الجماعية، فيأتي الرد حازماً من جلالته:( إن حياة الفلسطينيين لا تقل قيمة عن حياة الإسرائيليين، وأن على القيادة الإسرائيلية أن تدرك أنه لا يمكن لدولة أن تزدهر إذا بُنيت على أساس من الظلم).

  وكثيرةٌ هي العنواناتُ التي يمكن الوقوف عليها في خطاب جلالته، وهي عنواناتٌ تصح أن تكون دستوراً ونهجاً أخلاقيا لهذا العالم الذي يتشدق بحقوق الإنسان وبالحريات والعدالة، ولكن تلك العدالة تغيب عندما يتم امتحانها أو عندما يتعلق الأمر بأمتنا العربية، يؤكد ذلك قول جلالته: ( وبينما تقوم إسرائيل اليوم بتجويع المدنيين الفلسطينيين حرفيا فلطالما تم تجويع الفلسطينيين لعقود عن الأمل والحرية والمستقبل، وعندما يتوقف القصف لن يتم محاسبة إسرائيل وسيستمر ظلم الاحتلال وسيدير العالم ظهره إلى أن تبدأ دوامة جديدة من العنف).

     إذن السردية الحقيقة لم تبدأ منذ السابع من أكتوبر، كما أوضح  جلالته، وإنما بدأت قبل خمس وسبعين سنة منذ عام 1948، وما حصل في السابع من أكتوبر ما هو إلا ثمن لصَمت المجتمع الدولي عن تقديم المقاربة الصحيحة للقضية الفلسطينية، وانتقائيته في تطبيق القوانين، وهو ثمن لهذا الفشل في تحقيق تقدم ملموس نحو أفق سياسي يحقق السلام للطرفين على حد سواء. ويردف جلالته في متابعة السردية الصحيحة للوقائع ليضحد بها السردية الإسرائيلية أمام العالم، فيقول:

(على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية رأينا كيف تحوَّلت أحلام حل الدولتين وآمال جيل كامل إلى يأس). ثم يتابع محمِّلاً إسرائيل المسؤولية عن جرائمها : (هذه هي القيادة الإسرائيلية المتشددة التي بنيت على الأمن بدل السلام، وفرض حقائق جديدة غير شرعية على الأرض، تجعل هدف الدولة الفلسطينية المستقلة غير قابل للتطبيق).

وحين يمتحن جلالته إنسانية هذا الغرب ، تجده أشد ضراوة في وضع الأمور في نصابها محذراً من خطورة هذا النهج التمييزي يقول:

(وحدود الإنسان لها محددات فهي تتوقف عند الحدود، وتتوقف باختلاف الأعراق، وتتوقف باختلاف الأديان، وهذه رسالة خطيرة للغاية، وعواقب اللامبالاة  والتقاعس ستكون كارثية علينا جميعاً).

إن تكرار جلالته لكلمة تتوقف ثلاث مرات، وكان بإمكانه العطف على الفعل الأول (تتوقف) لهو مما يؤكد على الاستمرار بالفكرة التي تدور في ذهن جلالته وما لها من خطورة غاية الخطورة.

أما الرسائل التي تضمنها الخطاب فهي رسائل قوية وواضحة ولا لبس فيها:

وأولها:الرفض القاطع للتهجير القسري للفلسطينيين أو التسبب بنزوحهم فهذه جريمة حرب بالنسبة للقانون الدولي، وخط أحمر لنا جميعاً.

وثانيها: إن السبيل الوحيد لمستقبل آمن لشعوب الشرق الأوسط  لليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء، والعالم أجمع يبدأ بالإيمان بأن حياة كل إنسان متساوية في القيمة. (وذكر هذا الترتيب عن فطنة وعقل باعتبار أقدمية الترتيب الزمني لنزول الديانات السماوية).

وهذا تفكيك للعقلية الإسرائيلية والغربية من ورائها التي تعتقد أن الدم الإسرائيلي أغلى من الدم العربي.

وثالثها:المساواة في الحقوق والواجبات وفي العيش بسلام للجميع:(إن رسالتنا للشعب الإسرائيلي هي أننا نريد مستقبلاً من السلام والأمن لكم وللفلسطينيين؛ حيث يعيش أبناؤكم وأبناء الفلسطينيين دون خوف.

ورابعها للمجتمع الدولي؛ إذ يخاطبه بصراحة وحزم:( ومن واجبنا كمجتمع دولي أن نفعل كل ما هو مطلوب لإطلاق عملية سياسية هادفة يمكنها أن تأخذنا إلى سلام عادل ومستدام على أساس حل الدولتين).

وخامسها: إنه يتعين على القيادة الإسرائيلية أن تدرك (والإدراك أعلى مراتب الفهم) أنه لا يوجد حل عسكري لمخاوفها الأمنية (والنص الغائب أنها مخاوف مصطنعة) وأنها لا تستطيع الاستمرار في تهميش خمسة ملايين فلسطيني يعيشون تحت احتلالها مجردين من حقوقهم المشروعة.

وسادسها: أن حياة الفلسطينيين لا تقل قيمة عن حياة الإسرائيليين، وأن على القيادة الإسرائيلية أن تدرك أنه لا يمكن لدولة أن تزدهر إذا بنيت على أساس من الظلم.

وكثيرة هي النصوص المسكوت عنها في خطاب جلالته، ولكن المقام التواصلي يُحضرها  إلى عالم الإشارة، وهي سقوط المفاهيم الغربية التي يتشدقون بها، في الوحل، في وحل غزة؛ لأن السياسة من وجهة نظر جلالته لا تنفصل عن الأخلاق، والقيم الإنسانية التي ألمح إليها جلالته في بدء خطابه فأفشى سلام الإسلام واشتق منه دلالته على السلام قائلا: ً(هكذا يحيي المسلمون والعربُ الآخرين بالدعوة لهم بالسلام والرحمة، وقد جاء ديننا بهما من الله، فالعهدة العمرية وجدت قبل خمسة عشر قرنا وفعَّلها المسلمون؛ أي قبل اتفاقات جنيف؛ إذ أمرت المسلمين بألا يقتلوا طفلا ولا امرأة ولا كبيرا في السن وألا يؤذوا راهبا ولا يهدموا كنيسة..إلخ) وكل هذا يستحضر المسكوت عنه فيما يفعله الإسرائيليون ويشجعهم الغرب عليه بشعب أعزل، وأطفال أبرياء وشيوخ ركَّع.

نعم هذه قواعد الاشتباك (بلغة السياسيين) ولكنها قواعد أسس لها الإسلام  واتبعها المسلمون في حروبهم، وهي قواعد يتحتم على كل مؤمن أن يأخذ بها.

وبعد؛

فقد كان خطاب جلالته خطاباً مبنياً على المنطق والمحاججة العقلية المقنعة، خطاب فكك به خطاب المركزية الغربية التي تتمحور حول ذاتها، وحول رأي واحد وآيديولوجيا ظالمة وموحدة في استمرار الظلم والقتل والتهميش لأهلنا في غزة وفي كل فلسطين؛ آية ذلك أن بوصلة جلالته هي فلسطين، وقلبها القدس الشريف بما هو أمانة في أعناق الهاشميين.

وأضيف لقد أدرك جلالته أهمية "حرب السرديات تلك، فجاء خطابه مفكِّكاً للسردية الإسرائيلية والغربية الظالمة". ألم أقل إننا في حرب سرديات؟

YU

إعــداد الكفــاءات العلميــة فــي مختلــف حقــول العلــم والمعرفــة، وإنتــاج بحـث علمـي إبداعـي يخـدم المجتمـع من خلال تقديم تعليم متميّز في بيئة جامعية مُحفزة.

اتصل بنا

  •  اربد- الاردن, ص.ب 566 الرمز البريدي 21163
  •  yarmouk@yu.edu.jo
  •  7211111 2 962 +
جميع الحقوق محفوظة © 2024 جامعة اليرموك.
+96227211111Irbid - Jordan, P.O Box 566 ZipCode 21163