كتبت الطالبة: هبة خصاونة/ كلية الصيدلة
إشراف الدكتورة إسلام بردويل/ كلية الصيدلة
على مدى العقدين الماضيين، غير الإنترنت والتقنيات الجديدة من حياتنا بشكلٍ جوهري؛ ولعل أكثرها شيوعاً هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت جزءً لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية على مستوى العالم.
محلياً، أظهرت دراسةً مسحيّة حديثة أن معدل انتشار الإنترنت في الأردن قد بلغ 91.0 %من إجمالي السكان مع بداية عام 2024، وأن ما يُقارب 60%منهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي.
إن الاستخدام الواسع لهذه الوسائل، وبالرغم من الفوائد الكبيرة التي تقدمها كتسهيل التواصل وتبادل المعلومات، إلا أنها تطرح أيضاً تحدياتٍ كبيرةٍ في مجالاتٍ متعددة، لعلّ أهمها الصحة الجسدية والنفسيّة، لذلك أثارت الأمراض المتعلقة بالإنترنت اهتمامًا متزايدًا في مجال الأبحاث الطبيّة.
مقاطع الفيديو القصيرة أو ما يُعرف بالـ "Reels" هي مقاطع فيديو تتراوح مدتها من 15 - 60 ثانية وتهيمن على جميع منصات التواصل الاجتماعي، وتحديداً منصتَي الشباب والمراهقين المفضَّلَتين؛ منصة "الانستغرام" التي يستخدمها ما يقارب 4 ملايين أردني، ومنصة "التيك توك" التي يستخدمها نحو 3 ملايين أردني.
إن إدمان المقاطع القصيرة أو ما أصبح يُعرف عالمياً "بالكوكايين الرقمي" هي ظاهرة حديثة تتفاقم في مجتمعات الشباب خاصةً، وتشكل تهديداً حقيقياً لقدراتهم العقلية وصحتهم النفسية، وتأثر تأثيراً مباشراً على علاقاتهم الاجتماعية، إلى درجةٍ تثير قلق واهتمام الأخصائيين والباحثين في علم الأمراض العصبيةِ والنفسية.
تشير الدراسات إلى أن الشباب حول العالم يقضون ما يُعادل 18 مليون ساعة في مشاهدة هذه المقاطع يومياً، ويكمن السر وراء إدمان مشاهدة المقاطع القصيرة بأنها تحفز مناطق المتعة والمكافـأة " pleasure and reward" في الدماغ بشكل مكثف، مما يؤدي إلى إفرازٍ كبير لمادة الدوبامين خلال فترة زمنية قصيرة؛ ما يشكل محركاً أساسياً للسلوك الإدماني على هذه المقاطع بشكل مشابهٍ لأنواعٍ أخرى من الإدمان، كالقمار وإدمان الانترنت.
ومما يزيد الأمر تعقيداً أن تطبيقات الفيديو القصيرة تُصمم عادةً لتستمر في تشغيل مقاطع فيديو تلقائياً عن طريق خاصية التمرير اللانهائي “Endless scroll”؛ باستخدام خوارزمياتٍ تتبع نشاط الفرد ومن ثم التنبؤ بالمحتوى المُفضل لديه، تشمل الأعراض الرئيسية لإدمان الفيديوهات القصيرة مشاهدة عددٍ كبيرٍ منها لفترات زمنيةٍ طويلة والتي يتبعها غالباً الشعور بالذنب، وإدراك الحاجة إلى التحكم في مشاهدتها مع عدم القدرة على السيطرة على هذا السلوك. وغالباً ما يتنج عن هذا الادمان صعوبة قضاء الوقت بدون استخدام هذه التطبيقات مما يؤدي إلى إهمال الأعمال المهمة وانخفاض الإنتاجية اليومية.
على الرغم من أننا لا نزال نفتقر إلى عدد كبيرٍ من الأبحاث السريرية حول هذه الظاهرة، إلا أن هناك أدلة متزايدة على التأثيرات الضارة لهذه التطبيقات على المستخدمين المنتظمين، خاصةً على تطور الدماغ لدى الأطفال والمراهقين، ولعلّ أبرز هذه التأثيرات هو انخفاض مدى القدرة على التركيز.
وفقًا لتقريرٍ مثير أجري في كندا فإن معدل تركيز الانسان قد انخفض من 12 ثانية - 8.25 ثانية، ويعزو العديد من الأطباء ذلك إلى تزايد إلى الإدمان الرقمي، فقد أظهرت الدراسات أن التعرض للمقاطع ذات الإثارة العالية يُضعف القدرة على الحفاظ على التركيز في المهام لفتراتٍ كافية.
ومن المثير للقلق أن ضعف التركيز بين مستخدمي تطبيق تيك توك على وجه التحديد، قد انعكس انعكاساً مباشراً على ضعف قدرتهم على الاندماج في الأنشطة التعليمية وانخفاض تحصيلهم الدراسي، إضافة إلى انتشار ظاهرة التسويف الأكاديمي (الـتأجيل وتراكم المهام الدراسية) خصوصاً للمهام التي تتطلب جهدًا كبيرًا، مثل الواجبات الأكاديمية والتعلم الذاتي المنظم.
تضيف بعض الدراسات أن ضعفَ الاداء الأكاديمي الناتج عن إدمان هذه المقاطعِ ناجمٌ عن التأثير السلبي لها على الذاكرة؛ إذ لاحظ الباحثون أنّ إدمان هذه المقاطع ارتبط ارتباطاً وثيقاً بضعفٍ في الذاكرة بنوعيها المستقبليّة والإستِعاديّةِ، والمصحوب بزيادة مستويات التوتر والاكتئاب لدى هؤلاء الأشخاص، مما يزيد من سوء أدائهم الدراسي وتحصيلهم الأكاديمي.
وفي دراسة أخرى، ارتبط الإدمان على هذه المقاطع بانخفاض مهارات القراءة لدى الطلبة؛ وعليه فوفقاً لنظرية التحفيز الزمني، فإن العقل البشري يُفضل المهام التي تحفز مناطق المتعة والمكافـأة بشكلٍ أسرع عندما يكون الوقت المتاح محدودًا، إضافة إلى أن العقل البشري بطبيعته لديه قدرةٌ أكبر لاستقبال المادة المرئيةَ بشكلٍ أسرع من النصوص المكتوبة، علاوةً على أن هذه المقاطع تخلو تماماً من إي نصوصٍ مكتوبةٍ في معظم الأحيان، ولكونها تبرمج الأدمغة على المهام القصيرة ذات الطابع السريع التي لا تتطلب التنسيق بين مراكز الدماغ العصبية المتخلفة، مما أدى إلى تفوق مقاطع الفيديو القصيرة على النصوص المكتوبة بشكلٍ كبير.
الوقاية والعالج
يُستخدم العلاج السلوكيّ المعرفيّ "CBT" بشكلٍ فعال لمعالجة الإدمان الرقمي وأثاره النفسّية، ويركز العلاج على مساعدة الفرد على زيادة وعيهِ وفهمهِ لسلوكياتهِ، وتطوير آلياتٍ وسلوكياتٍ ايجابية للتقليل من هذا الإدمان منها: تقييد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لفترة معينة من الوقت خلال اليوم بدلاً من استبعاد تلك المقاطع تماماً وبشكل مفاجئ عن طريق وضع حدود على مقدار الوقت الذي يتم قضاءه على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً باستخدام خاصية "Screen Time " الموجودة في معظم الهواتف المحمولة.
كما ويمكن استخدام مانع التطبيقات لمنع فتح التطبيقات في أوقات العمل والدراسة، بالإضافة إلى الحرص على التوقف التام عن استخدام الأجهزة اللوحية بكل أشكالها بمجرد مغادرة العمل.
كما ويوصي المختصون بإغلاق الأجهزة الإلكترونية قبل النوم بساعة على الأقل، وإبعادها عن غرف النوم وغرف الأطفال، وتجنب استخدامها قبل النوم مباشرة، يضاف إلى ذلك استبدال الوسائل الإلكترونية بأخرى غير رقمية عند الإمكان كاستخدام الورقة والقلم لكتابة الملاحظات وتدوين المهام اليومية بدلاً من استخدام الأجهزة الإلكترونية.
في الختام، إن مصطلح الكوكايين الرقمي ليس مصطلحاً مجازياً فحسب، بل يعكس حقيقة التأثيرات القوية والإدمانية التي يمكن أن تتركها الفيديوهات القصيرة على الدماغ البشري. لإنّ دماغك وقدرتك على التركيز وإيجاد حلول للمشكلات التي تواجهك هو ما يميزك عن غيرك ومفتاح نجاحك وتميزك في الحياة. لذلك يجب أنّ تكون مدركاً وواعياً لخطر هذه التكنولوجيا المتقدمة بل وأنّ توظفها توظيفاً حكيماً لتنمية قدراتك ومهاراتك.